الفراشة والنّبيّ.. هل كانت الشّعلة الزّرقاء حبًّا؟
2
“أتمنّى أن يأتي بعد موتي مَن يُنصفني ويستخرج من كتاباتي الصّغيرة ما فيها من صدقٍ وإخلاصٍ”. إنّها ليست مجرّد أمنيةٍ وإن بدت لنا كذلك، إنّها وصيةٌ تركتها لنا فراشة الأدب العربيّ في ثنايا مذكّراتها، كتبتها لنا حينما كانت وحيدةً ومنسيةً وينهشها الخذلان، ونحن النّساء نعرف جيّدًا معنى أن تكوني امرأةً وحيدةً ينهشها خذلان أقربِ الأقربين. ظلّت كلمات “مَيْ” تدور في رأسي طويلا، الأديبة الرّقيقة والحرّة تطلبُ الإنصاف، لماذا؟ ألأنّها أسلمت قلبها لرجلٍ لم تلتقيه إلّا بين السّطور وخلف جدار الكلمات، ثمّ غادرها دون أن يتحقّق حلم اللّقاء؟ أم هو خيانة الأقرباء لها؟ أم هو استشراف لجنازتها التي لم تكن لتليق أبدًا بوادع الفراشات؟ مهما كانت الأسباب، هذه الوصيّة موجّهةٌ لنا، نحن القرّاء المسكونون بجمال ما كَتَبَتْ، نحن الذين نتداول اليوم اقتباساتٍ لها دون أن نشعر بحجم ما كانت تعانيه، نحن المفتونون برسائل الشّعلة الزّرقاء والمحتفون بالحبّ فيها غير آبهين بالضّياع والحيرة والخيبة التي طالت روح “مَيْ”.
عن حياة وموت الفراشة.
الفراشاتُ لا تموت، إنها ترتقي إلى عالمٍ آخر أفضل من هذا الذي كانت فيه، أتخيّل “مَيْ زيادة” هناك حرّة كما كانت دائمًا، هي التي نادت بحرّية المرأة وبتخطّي الحدود الواهية التي رسمتها القبيلة لها. بدأت حكايتها في “النّاصرة”، هناك حيث كبُرت بين الكتب والثّقافة، ومن يكبر بينهما يحبّ الأدب والشّعر والحرّية وكذلك كانت “مي”.
بعد “النّاصرة”، انتقلت إلى لبنان لتُتمّ تعليمها الثّانوي بدير الرّاهبات بـ”عين طورة”، وفي هذه الأثناء تأثّرت بالمدرسة الرّومانسية التي كانت أبرز المدارس الأدبيّة آنذاك. بعد النّاصرة ولبنان، انتقلت إلى القاهرة رفقة أسرتها وهناك درست الأدب والفلسفة، كانت لـ”مي زيادة” منذ بداياتها الأولى كلمةٌ، وقد كتبتها وإن كان ذلك تحت أسماءٍ مستعارةٍ. مثل “إيزيس كوبيا” أو “السّندبادة البحرية الأولى” أو “شجية”.. بعد هذا انطلقتِ الفراشة قلماً أدبيًّا رهيفًا ولكنّه حرٌّ وقويٌّ بالنّظر إلى مقاييس المجتمع الشرقيّ الذي كان فيه الأدب حينها حكرًا على الرّجال دون النّساء.
كانت “مَيْ” المثل الأعلى للفتاة الشرقيّة المثقّفة، هكذا قالت عنها “هدى الشّعراوي” رائدة الحركة النسويّة الأولى في مصر، فقد كانت “مَيْ زيادة” إلى جانب سطوعها الأدبيّ، مدافعةً عن قضيّة تحرير المرأة العربيّة ومساواتها مع الرّجل. وكانت من أوائل من كتبوا عن هذه القضيّة بشكلٍ نقديٍّ. وهكذا فلم يكن من الغريب أبدًا أن تكون “مَيْ زيادة” أوّل امرأةٍ تنشئ صالونًا أدبيًّا في مصر يستقبل ضيوفًا من الجنسين، فقد توافد عليه كتّابٌ وأدباءٌ وشعراء، كان من بينهم “طه حسين”، “خليل مطران”، “عبّاس العقّاد”، “مصطفى صادق الرّافعي” وغيرهم. لو جُمعت الأحاديث التي دارت في صالون “مَيْ” لتكوّنت منها مكتبةٌ عصريّةٌ تقابل “العقد الفريد” و”مكتبة الأغاني” في الثّقافتين الأندلسيّة والعباسيّة، هكذا قال العقّاد واصفًا حال الصّالون.
امرأةٌ مثقّفةٌ كـ”مَيْ زيادة” لا يمكن إلا أن تُحبّ، وقد أحبّها فعلًا في السّرّ والعلن جلّ الأدباء والشّعراء الذين عاصروها، لقّبوها بـ”نادرة الدّهر”، “أميرة البيان” وغيرها من الألقاب، ولكنّهم في الحقيقة لم يحبّوا “مَيْ” لأنّها كاتبةٌ ومثقّفةٌ بالدّرجة الأولى إنّما لكونها امرأةً مرهفةً فحسب، ولهذا فقد كانت “مَيْ” ذكية وكان قلبها كـ”كالجبل ما يهزه ريح” كما قال الكاتب “مارون عبود” واصفًا عنفوانها الصّارخ. قلب “مَيْ” كان جبلًا إذن والطّريق إلى أعلى الجبال وعرةٌ ولا يصلها الكثير وقد لا يصلها أحد، وحده الأديب “جبران خليل جبران” تسلّق الطّريق وفي أعلى القمّة استقرّ، أحبّته “مَيْ زيادة” كثيرًا وظلّت تحبّه بنفس دهشة الحبّ الأولى وظلّت تراسله دون لقاءٍ على مدى تسعة عشر عامًا.
“مَيْ زيادة” هادنت الحياة بالأدب والفكر ولكنّ الحياة لم تهادنها، أهدتها مرارة الفقد تباعًا، بدءً برحيل والدَيها ثمّ برحيل حبّ العمر “جبران خليل جبران”. بعد هذا تلاعبت بها الأقدار ولا أحد يغيّر أقداره، أدخلها أقرباؤها مشفًى للأمراض العقليّة، هناك بين أربعة أسوارٍ وسقفٍ كانت تحتضر ببطئٍ شديدٍ، تقول في مذكّراتها : “باسم الحياة ألقاني الأقارب في دارٍ للمجانين، أحتضر على مهلٍ وأموت شيئًا فشيئًا”.
كلّنا نعرف الكثير عن حياة الفراشات، ولكن لا أحد منّا يعرف شيئًا عن موتِها وهكذا كان أفول “مَيْ زيادة” صامتًا وموجعًا على عكسِ شروقها الصّاخب، كانت “مَيْ” وحيدةً ومنسيّةً، لم يهتمّ أحدٌ لغيابها، حتّى بعد خروجها من ذلك المشفى بضغطٍ من الصّحافة لم تجد أحدًا في انتظارها، تركوها وحيدةً تهش عنها المأساة بالكتابة وكأنّها كانت سبيل خلاصها الأخير. كتبت “مَيْ زيادة” حتّى آخر أيّامها إلى أنْ حلّقت روحُها إلى السّماء في عام 1941.
هكذا رحلت الفراشة تاركةً خلفها قصّةً وإرثًا أدبيًّا وإنسانيًّا لا ينسى، فأثر الفراشات مثل “مَيْ” يظلّ مرئيًّا ولا يزول أبدًا.
الأجنحة المتكسّرة.. نبوءة النّهاية!
بدأت المراسلات بين “مَيْ زيادة” و”جبران خليل جبران” بمبادرةٍ منها، كتبت له في أوّل الأمر عن الأجنحة المتكسّرة، كأنّ هذه البداية كانت نبوءةً تشي بأنّ العلاقة التي ستتكوّن بينهما لاحقًا لن تحلّق عاليًا، وأنّ أجنحة “مَيْ” ستتكسّر في النّهاية. إنّ الذي يقرأ رسائل الشّعلة الزّرقاء قراءةً محايدةً بعيدًا عن العواطف وكلّ ما قيل عنها، سيستنتجُ أن ما بينهما لم يكن حبًّا خالصًا بالمعنى الحقيقيّ للحبّ، إذ صحيحٌ أنّ الرّسائل ربّما ألّفت بين قلبين مرهفين لكنّها في الواقع لم تتجاوز حدود الصّداقة الحميميّة، جبران لم يَسْعَ قطّ للِقاء “مَيْ”، ومَنْ يحبّ يسعى لإطفاء نار البعد وطيّ المسافة، كما أنّه لم يُفصح لها بشكلٍ دقيقٍ عمّا يحسّه تجاهها، وكان يعبّر بشكلٍ علنيٍّ عن حبّه لامرأةٍ أخرى هي “ماري هاسكل” التي أحبّها حقًّا حتّى قال فيها : “سأحبّك حتّى الأبديّة، فقد كنت أحبّك قبل أن نلتقي كبشريَّين من لحمٍ ودمٍ بزمنٍ طويلٍ، عرفت ذلك حينما رأيتك للمرّة الأولى، كان ذلك هو القدر” جبران لم يخصّ “مَيْ” وحدها برسائل رقيقة، فهو مولعٌ بهذا الجنس الأدبيّ، وكتابه “الحبيب” تضمّن رسائل مشابهةً وجّهها لـ”ماري هاسكل”. على عكسِ “مَيْ” التي لم تحبّ أحدًا كما فعلت مع جبران، خصّته وحده بقلبها وظلّت تصارع نيران الحبّ العاتية وحدها لسنين طوال، ولأنّها تعرف جيّدًا أنّها ليست وحيدة قلبه، كتبت له قائلة : “ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إنّي لا أعرف ماذا أعني به. ولكنّي أعرف أنّك محبوبي وأنّي أخاف الحبّ. إنّي أنتظر من الحبّ كثيرًا فأخاف ألّا يأتيني بكلّ ما أنتظر. أقول هذا مع علمي بأنّ القليل من الحبّ كثير. ولكنّ القليل في الحبّ لا يرضيني. الجفاف والقحط واللّاشيء خيرٌ من النّزر اليسير”.
“جبران خليل جبران” وجد في “مَيْ زيادة” ربّما شيئًا من عبق الشّرق الذي وإن غادره ظلّ يسكنه بطريقةٍ ما. حاول أن يستبقيها فوق الأوراق وبين الكلمات لكن بعيدًا عن حياته الحقيقيّة ومغامراته العاطفيّة والجنسيّة، فكاتب “النّبيّ” ليس بالضّرورة نبيًّا، هكذا قال “ميخائيل نعيمة” في حقّ “جبران خليل جبران”، في إشارةٍ لعلاقاته الكثيرة التي كان يقيمها مع عددٍ من النّساء هناك في أمريكا في نفس الوقت الذي كان يكتب فيه أعذب الرّسائل وأرقّها.
العلاقة بين “مَيْ زيادة” و”جبران خليل جبران” لم تكن حبًّا كامل الأركان، كانت علاقةً مبهمةً ووهمًا جميلًا عاشته سيّدة الأقدار الحارقة وحدها، وليس من الإنصاف أن نقرن مثقّفة مصر الأولى بقصّتها مع جبران، ليس من الإنصاف أبدًا أن نذكرها بشكلٍ عابرٍ كعشيقةٍ فقط حينما نمرّ بسيرة هذا الأديب، فهي أكبر من أن تختزل بهذا الشّكل.
حينما نفهم نحنُ القرّاء هذا، عندها فقط سنحقّق أمنية الفراشة أخيرًا أو وصيّتها، حينها سننتصر لصدقها وإخلاصها، إنصاف الفراشة بيدنا نحنُ القرّاء حتّى بعد كلّ الزّمن الذي مضى.
مريم الفارسي
Afanine
مجلة أفانين: هي منصّة إلكترونيّة حرّة، وشاملة، ومتنوّعة، تديرها جمعيّة كتّاب الزيتون والمعهد اللغوي الأمريكي بالدار البيضاء، وتضع على عاتِقها أن تفتحَ نافذةً، للكتّاب والفنّانين في المغرب، نحو آفاق الإبداع. تنشر المجلة أعمالًا أدبية وفنية للكتاب والفنانين الشّباب بالمغرب، بالإضافة إلى مقابلات، وبروفيلات، وفرص، وصور فوتغرافية، وغير ذلك. تروم المجلة تسليط الضّوء على إبداعات الكتاب والفنانين الصّاعدين بالمغرب.
مريم التي أحب، شكرآ لما أيقظت في وجداني من مشاعر استشعرتها قيد قراءة رواية “العصفورية”. جميل جداا جداا، استمري عزيزتي ❤️
مريم من العيون.