الصّمت كغايةٍ من غاياتِ اللّغة!

الصّمتُ غاية حديثة مِن غايات اللّغة. وهو كذلك نتيجة طبيعيّة لاعتبار العرب اللّغةَ غايةً لذاتِها وبذاتِها، عبر التاريخ الطّويل من الحَكي والتّحدث والإنشاد والكلام وحتّى الصّراخ، دونَ أن يتبعَ هذا الفعلَ اللّسانيَّ فعلٌ واقِعيّ يحوّل كُلّ هذا الكلام إلى أفعالٍ منتِجة ومُغيّرة وُمحدثة لتقدّمٍ أو تَحرّر. وفي هذا استثناءات طبعًا، لكنّ القاعدة لا تقاس على الاستثناء. ودونَ أن يَسْلَمَ هذا الفِعل مِن كُل الممارسات القَمعيّة التي سَعَت لقتل هذه الأصوات وإخفائِها وخنقِها.

في دراسة التّحوّلات التي طالت المجتمع العربيّ، وتحديدًا بعد وسائل التّواصل الاجتماعيّ أو “الرّقْمنة”، يمكن الانتباه إلى التّحول من كون المجتمع “ظاهرةً صوتيّة”، إلى كَوْنِهِ “ظاهرةً نصّية” أو سأستخدم مصطلح “ظاهرة نَصّويّة” للتفريق بين استخدام الكلمة في مجال الدّراسات الأدبيّة وبين هذا الاستخدام الأقرب إلى السيسيولوجي. أقصِد هُنا عدّة قضايا، منها ذوبان الصّوت (بشقّيه الإيجابي والسّلبي) في “الفراغ الرّقمي”، وتحوّله إلى نُصوص “صامِتة”. والصّمت بكل الأحوال ضِدّ الحريّة، وهو هدفُ كلّ السّلطات السّياسيّة التي قامت على الأرض. إذن أصبحنا أمام مجتمع يُعبّر عن رفضه أو رِضاه، غضبه أو فرحه، إيمانِهِ أو كفره، على وسائل التّواصل الاجتماعي عبر الكِتابة لا على الواقع عبر صوتِه. أيضًا يظهر ما يُريد وما يتناسب والقيود المجتمعيّة ويخفي ما يُريد. وإذا سألنا الآن لماذا تلاحق السّلطة السياسيّة هذه الممارسة “النّصويّة” إذا كانت بالنّسبة لها أخفّ وطئًا من الصّوت، فيمكن أنْ نقول إنّ السّلطة ذات تعطّش دائم للقَمْع، فلو انتقلت الشّعوب للتعبير بلغة الإشارة للاحقتها في ذلك، إضافة إلى أنّ التجربة الأولى لهذه الوسائل في “الحِراكات العربيّة” خلقت قلقًا دائمًا منها، أو من أيّ تحشيد للكامِنْ من خلالها. هذا كله أحد الجوانب، وهناك الكثير، وهو ما لا أريد التوسّع فيه حول إعطاء منصّة/ حق للجميع للتّعبير عن آرائهم دون أي اعتبار لمستويات الوعيّ والثقافة لديهم، وهذه قضيّة أخرى، وترتبط مباشرة بجملة: “العرب ظاهرة صوتيّة”، وترتبط بممارسات عيّنة “الرّأي العام” المُضلِّلة والمُضلَّلة عبر هذه الوسائل تجاه قضايا مجتمعيّة أو سياسيّة، ويرتبط بما أسماه إيكو بغزو البُلهاء، حين قال: “‏إنّ أدوات مثل تويتر وفيسبوك، منحت حقّ الكلام لفيالِقٍ من الحَمقى ممن كانوا يتكلّمون في البارات فقط، بعد كأسٍ من النبيذ، دون أن يتسبّبوا بأيّ ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا.. أما الآن فلهم الحقّ بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل.. إنه غزو البلهاء!”.

 هذه فقط أفكار صغيرة يمكن التّوسع فيها، لكن السّؤال الأساسيّ الذي يُمكن أن نسأله: هل يُحقق “العنف الثّوري” المُمارَس على وسائل التّواصل عربيًا أثرًا في الواقعيّ؟ ففي كل قضيّة مثلًا يطالب جمهور عريض بإقالة مسؤول أو محاسبة مخطئ ولا يتمّ ذلك، بل يحاسب المُطالبون، أو بعضُهم، لدرجة أنّ صديقًا يخبرني أمس أنَّ صديقًا له دَخَل السّجن لأنه وضع تعليقًا فيه تمنٍّ بالسّلامة لأحدِ المعارضين في دولةٍ ما، هل لو كانت هذه المطالبات “صَوتيّة” في شارعٍ عام سيكونُ الأثر ذاته؟، هذا السّؤال الذي حتمًا ستشكّل “لا” إجابته الشّافية باعِثٌ حقيقيّ على اتّخاذ الصّمتِ وقاية للنّفس والخاطِر وأفقِ الانتِظار.

إذن؛ نتيجة لكلّ هذا، يمكن القول إنّ الإنسان الحديثَ فقد صوتَه، وإنّ هذه التّحولات فرضت تحولاتٍ أخرى في اللّغة ذاتِها، إذْ تغيّرت دلالات بعضِ الكلمات؛ فالصّمتُ الحقيقي، لا يقتصرُ الآن على عَدَمِ التّحدث باللّسان، بل يشملُ عدم الكتابة هنا أيضًا. إذن؛ أنظُرُ الآن إلى الصّمت كحالة ذهنيّة للإنسان الحديث الذي انكفأ على نفسِه لشدّة ما يسمع ويقرأ من مقولات ومداخلات وأفكار تستتفه العقل البشريّ أحيانًا، أولا تؤدّي أي وظيفة حقيقيّة عمليّة ولو توعويّة أحيانًا أخرى. لذا؛ فإنّ الصّمتَ كموقِف أصبَح أحد غاياتِ اللّغة وهو يحمل حُريّة الامتِناع، في ظِل حالة نصّوية غير منتِجة شكّلت امتدادًا نحو الأسفلِ والأقلِّ للظاهرة الصّوتيّة غير المنتجة أيضًا وأصلًا، والصّمتُ الذي أتحدّثُ عنه هُنا له شكلٌ آخر غيرُ الذي تسعى إليه آلة القمع، مع أنّها أحدُ أسبابِه، لكنّه صمتٌ ينبعُ من اليائِس والمُترفِّع والمُتَخلِّي والممتَنِع والقَلِقْ داخِل الإنسان الذي فقدَ الثّقة باللّغة والصّوت والتّغيير، فقدَ الثّقة بكُلّ شيء.

 

مهنّد ذويب