تتعانَقُ الأمواجُ عناقًا حارًا كعناقِ وداعٍ في لقاءٍ أخير، تتماهى فيما بينها، يختلط بياضُها بزُرقَتها وبرماديّتها الباهِتة، تعزف مقطوعةً لا بداية ولا نهاية لها؛ سمفونيّة سرمديّة تتخللها رائحة الرّمل المبللّ وأصوات النوارس المتقطعة.
وَلَجَتْ إلى المقهى المُعتاد المُطلّ على الساحل، دَخَلتْ بحذرٍ كأنّها تلجُ حقلَ ألغامٍ مُفَخّخ. لا تَحملُ سوى مذكّرتها، لكنّ الناظِرَ إليها للوهلة الأولى يزعمُ أنّها تحمل أطرافَ الكونِ على كتفيها النّحيلين؛ تبدو منهكةً، مرهقةً.. تبدو وكأنّ الحياة قد انسحبتْ على مَضَضٍ من جسدها الممشوق. وقفت وسط المكان، و بدأت تنظر بتفحّصٍ كأنّها تبحثُ عن شخصٍ غالى في الانتِظار.
لا! لقد أخطأتُ! إنّها تذهبُ إلى الزاوية! كانت فقط تبحثُ عن ركنٍ بعيدٍ عن الأنظار. من المؤكّد أنهّا، وزيادةً على وابل المواجع التي لا تفارقها، فتاةٌ خجولةٌ.. تحب الاختلاءَ بنفسها.. تحبّ الزوايا.
بعد انتظارٍ دام لحوالي 20 دقيقة دون شكوى، لحظ النادل وجودَها: ماذا تطلبين يا آنسة!، أجابت بصوتٍ خافتٍ لم أسمعه. بعد دقائق أحضر النادلُ فنجان قهوةٍ ومِنْفَضَةَ سجائِر.
تذوّقتْ قهوَتَها وفتحت مُذكرتها، كتبت شيئًا ما وسرعان ما وضعت القلم جانبًا و شَرَعت بالبكاء.
لم أتحمّل لحظةً واحدةً، لا أدري من أين استمدَدْتُ تلك الجرأة.. لكنّها فرصة جيدة لي كبداية. توجهتُ إلى طاولتها، نظرت إلى ما كتبت وقلت: أريدُ الفرار؟ ممم.. هل هذا عنوانٌ لقصيدةٍ أم قصّة؟
نَظَرَتْ إليَّ بهدوءٍ وكأنّها قد سمعت وقع خطواتي قبل أن أصِلَها، قالت: لستُ كاتبةً و لم أكتب مِن قبل.. أريدُ فقط الفرارَ من هذا العالم البَشِع، أرغبُ في الذهاب بعيدًا حيثُ لا أقنعةَ تبتسمُ في وجهكَ و تحتقرك في غيابك، حيث لا فظاعة تخرّب النوايا النّقية، حيث لا تَعْلَقُ أوحالُ العادة بصفاءِ أحلامي، أريدُ و أريدُ و أريدُ.. لو يتوقّف الزمن ويخلّصني.
أجبتُ بحذرٍ كي لا أتفوّهَ بكلمةٍ قد تزيدُ من حالتها، فهذهِ أوّل مرّةٍ أتحدث فيها لأزيدَ من كلمتينِ مع شخصٍ ما، ما بالكُ بشخصٍ غريب!.. أفهمكِ عزيزتي، أقصدُ يا أنِسة، احممم المعذرة! حاولتُ يومًا أيضًا الفرار من هذا العالم، وأؤكد لك أنّ اللاشيء أفظع.
قالت: ما الفظيع في ذلك؟ ما الفظيع في إنهاءِ ما لم يبدأ بعد؛ لوخُيّرتُ بين ألمٍ غيرِ منقطعٍ وبينَ العدم لاخترتُ حتمًا الــــ..
أمسكتُ يديها دون أن أشعر، ووضعتُهُما بين كفيَّ كعصفورٍ جريح، لا أدري كيف أمطرت جرأتي بغزارة هذا الصّباح. لم تُبْدِ أيّ ردِّ فعل. كان وجهها شاحبًا باردًا، وخاليًا من الملامح.. كانت حركاتُها غيرَ متوقعة، أمّا أنا فكنت صفحةً بيضاء، كنت نسيجَ مرايا عاكسة، لا أستطيع إخفاءَ شيء.
أحاولُ العودة إلى الحياة، بينما هي تحاول إنهاءها!، كنّا خطين متوازيين، تيارين متعاكسين يريدانِ بشدّة بلوغَ هدفين لا يلتقيان أبدًا!. تركتُ يديها الدافئتين، وهمست في أذنِها: ما رأيك في جولةٍ قرب الشاطئ؟ ردت بسرعة: هيا! فلم يعد لتفكيري معنى بعد الآن.
مشينا ببطئ شديد، كمن يتّجه نحو حقيقةٍ يريدُ معرفتها لكنّه خائفٌ منها، كمَنْ لا يريدُ التّوقف، يريدُ التقدمَ لكن لا يريدُ الوصولَ أبدًا، كنت أتمنى لو أنّ للزمن آلةً عليها “زر”: «PAUSE» ، أضغط عليه عند الحاجة، فتتوقف الحياة دون أن تنتهي.
تحدثنا عن كلّ شيء، تحدثنا عن اللاشيء، حاولت استردَادها، حاولَتْ نَفْيي إلى الحياة؛ قالت لي: تليقُ بك الابتسامة وعيناها تدمعان. كنتُ أود أن أقول لها: ستليق بك أكثر يا آنسة! لا! يا عزيزتي! يا من أعادتني إلى الحياة دون أنْ تُدرك.
استلقينا على الرّمال الدافئة، كأنّنا نستريحُ من تعبِ يومٍ طويل، شردتُ في أحلامي\ في خيالي، وتعالت ضحكاتُها في عقلي، لا أدري كيف تمكن عقلي الساذج المشاكِسُ هذا من سماع ضحكةٍ لم يسمعها من قبل، شعرتُ بنبعِ الحياة يفورُ من جديدٍ في قلبي، فتحتُ عينيَّ ولم أجد تلك الــ”عزيزة”.. كانت قد اختفت!.. هل عادت أم…؟
نهضتُ مِن فزعي، فلمحتُ المذكّرة مفتوحةً وموضوعةً إلى جانبي:
أريد الفرار!
العالم أقلُّ فظاعةً بوجودك.. قد نلتقي مُجددًا..
انتظمت النوتات مجددًا.. فجأةً.. توقّفت معها المقطوعة.. توقّفت معها الحياة..
هاجر أوحسين، مكناس
Afanine
مجلة أفانين: هي منصّة إلكترونيّة حرّة، وشاملة، ومتنوّعة، تديرها جمعيّة كتّاب الزيتون والمعهد اللغوي الأمريكي بالدار البيضاء، وتضع على عاتِقها أن تفتحَ نافذةً، للكتّاب والفنّانين في المغرب، نحو آفاق الإبداع. تنشر المجلة أعمالًا أدبية وفنية للكتاب والفنانين الشّباب بالمغرب، بالإضافة إلى مقابلات، وبروفيلات، وفرص، وصور فوتغرافية، وغير ذلك. تروم المجلة تسليط الضّوء على إبداعات الكتاب والفنانين الصّاعدين بالمغرب.