حديثٌ غيرُ عابرٍ عن مقهى “سان خورخو”

كان مقهى سان خورخو مألوفًا جدًا بالنّسبة إليَّ.. مألوفٌ وناصِعُ الوضوح. أنا ولدتُ بعد أنْ أغلقوهُ بسنين عديدة. ولكنني أعرفه جيدًا.. أكثرَ ربّما من كلّ الذين زاروه. أنا رأيتُهُ بعيون السيدة باولينا وفي عيونها. وعيون السيدة باولينا عاشِقة، وكلُّ من يعشق يحفظُ التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة، يُسمِّيها ويصاحِبُها حتّى آخر العمر. رأيتُ من خلالها الرّجال والنّساء. رأيتُ المساءات الباردة وكؤوس الشاي السّاخنة.. رأيتُ النادل محمد أو “موخاميد” الذي أحبتهُ باولينا في زمنٍ مضى.

“كان حلمًا مُشْرعًا على البحر والسّماء”

هكذا كانت تصفُ لي المقهى مِرارًا.. كانت تفعل ذلك كما لو أنّها المرة الأولى، وكنتُ أنا أستمعُ وكأنّي أكتشفُ القصّة للمرة الأولى أيضًا. كانت تصفهُ وفقَ نفسِ الترتيبِ ونفس الكلمات ونفس التّنهيدات الطويلة بين الجُمَلْ..

منزلٌ مقابلٌ للبحر.. حينما تتحرك رياحُ الشمال تستطيعُ أن تشمَّ رائحة العرعار تنبعثُ من خَشَبِه.

بابٌ زجاجيٌّ يفصل بين عالمين.. بين حقيقةٌ وحلم.. وأثاث بسيط جدًا، يتكوّن من طاولاتٍ وكراسٍ خشبية لا غير. وعلى الجدران لوحات كثيرة لمدينة الخزامى وللبحر والجبل. كان صاحِبُ المقهى فنانًا إسبانيًا مهووسًا بتفاصيلِ المدينة حتّى أنّه جعل من منزلهِ وجهةً لكلّ روحٍ تائهةٍ فيها.  بالإضافة إلى نوافذ بدون ستائر تطلُّ كلّ مساء على الغروب. تقول باولينا:

“كانت ساعة الغروب تشدّني دائمًا، كلّ غروب لم يكن يشبه غروبَ اليوم الذي قبله.. لا أعرفُ لماذا؟؛ ولذلك فلم أستطع أنْ أحسم يومًا في لونه.. هل كان لونَ فرحٍ أم كان لونًا محايدًا.. لونًا حقيقيًا للطبيعة دون تأويلات كثيرة.. لا أعرفُ صدقًا.. ولكنني أحببتُه على كلّ حال. أحببتهُ منذُ أن انتبهتُ إلى “موخاميد” وهو يضعُ كلّ ما في يديهِ غير آبهٍ بالزبناء فقط ليقفَ كطفلٍ مشدوهٍ يتأمل مشهد الغروب”.

تضحك باولينا تحديدًا عند هذه الجملة وتُضيف:

” هل أخبرتك يومًا أنّ “موخاميد” يشبه زوربا بطريقةٍ ما؟”

دونَ أنْ تنتظرَ منّي جوابًا تُلملِمُ ضِحكتها على عجلٍ..  بينما تنزلقُ دمعةٌ وحيدةً من عينها اليسرى.. تسقط كمن تسقطُ من ذاكرتِه أزمنةٌ تصارع الموت.. كمن يعاوده ذاتُ الحلم الجميل الذي انتهى.

ظلّت السيدة باولينا بالرّغم من أنّها كانت عجوزًا في الثمانين تحكي لي عن كلّ تفاصيل المقهى الذي كان، وعن المدينة التي كانت.. ولكنّها لم تحكِ لي يومًا عن مصيرِ النادل “محمد”.. ولا لماذا أُغلقَ المقهى وهُدِّم كأنّه لم يكن يومًا.. كانت تكتفي بالقول إنّهم أشرار، وإنّهم يُغلقون كلّ الأماكن الجميلة.. لا أعرف مَنْ هؤلاء ولا لماذا تكرههم. كانت حكايتها غير مكتملةٍ وكأنّها مبتورةُ النّهاية، ولا أعرف إلى اليوم هل كانت تنسى حقًا النهاية أم أنّها كانت لا تذكُرُها عامِدة. مَرِضَت السيدة باولينا قبل أنْ تجيبني عن أسئلتي الكثيرة ثم اختفت فجأةً دون أن تودّع أحدًا. قيل إنّها عادت إلى إسبانيا، وقيل إنّها ماتَتْ في مليلية قبلَ الوصول.

وأنا لمْ أصدق أيَّ شيء من ذلك. فالسيدة باولينا حيةٌ في ذاكرتي.. السيدة باولينا حيةٌ وتسكنُ أنقاضَ مقهى سان خورخو.. تسكنُ كُلّ الكورنيش وترى الغروبَ والنوارسَ وتستمعُ مثلي لأغاني خوليو إكليسياس كلّ مساء. إنّها هنا تسكنُ قلبَ هذه المدينةِ وروحها.

 

مريم الفارسي، الرّباط