إنّي لا أجِدُني!

جالسٌ فوق القمر.. في ليلة هادئة لا يُسمع فيها إلا حديث النّجوم إلى بعضها، ثم تجد نفسك طرفًا في الحديث.. تسرد قصتك البائسة على إحدى النّجمات، تقع في حبك فتأخذك إلى مجرة أخرى. ريثما تستشعر جمالية الموقف، ينتهي الأمر باستيقاظك من النّوم… لا شيء حقيقي مما خُيِّل إليك، فلتعد مرة أخرى للجحيم.

أحيانًا يدفعنا التّأمل لفقدان السيطرة على عقولنا، يصبح الخيال مرتبطًا بالواقع لدرجة عدم القدرة على التمييز بينهما، تتمنى لو أنّ الخيال واقع وأن الواقع خيال، لو أنّ النجوم بشر تستمتع بالحديث معهم وأن البشر نجوم بعيدون عنك بملايين الكيلومترات.. لو أنّ حب تلك النجمة كان حقيقيًا وأنّ النجمة لم تُحبني فقط في  الخيال.

يا لِتفاهة العالم! هم بسيطون جدًا، حياتهم ممِّلة إلى أقصى الحدود. هكذا أنظر إلى الآخرين وكأني الوحيد الجميل على هذه الأرض، أو كأني القبيح الوحيد، المهم أني أتواجد في كفة والعالم في الكفة الأخرى. أصعد بروحي إلى السّماء لأرى نفسي مليًّا، فأجدني إنسانًا معقدًا مهما حسبت نفسك تعرفه ستجد أنّك لم تعرف عنه شيئًا. أقسم أني أعشق حالتي حين أكون منتشيًا مع أغنيتي، قد أستمع لها عشرات المرات، وكلّ مرة بإحساس جديد، رغم أنّها نفس الأغنية إلا أني أعيشها بأحاسيس مختلفة. أرى إنسانًا متقلِّبًا إلى أبعد الحدود، أذهب إلى المطبخ كي أشرب كأس ماء وأثناء عودتي يتحاور عقلي مع عقله عن الوجهة القادمة، هل هي الصالون أم الغرفة، وبعد صراع مَرير يُقرر أحدهما أن نذهب إلى الصالون، فنذهب إلى الغرفة. أرى إنسانًا دقيقًا وكأنّ العالم سيختفي إنْ لم يكن الشّيء في مكانه بالضبط، ألاحظ كثيرًا، لا أطيقُ رؤية الخطأ ولا أحرّك ساكنًا، ومع ذلك لا أصدر ردّة فعل؛ لأني في المقابل لا أتحمل الخروج من عالمي الخاص. فكل الحب لي ولعقلي ولعقله ولأغنيتي المفضلة، أمّا الآخرون فالجنة والجحيم يتّسِعان للجميع.

ربما ضحكي لا يعبّر فعلًا عما أشعر به، قد لا أتوقف عن الكتابة فقط إن كانت ستخرج ما بداخلي، لكن يقف الكبرياء اللّعين أمامي دافعًا إياي للاكتفاء؛ لأنْ لا أحد يهتمّ لما تعيشه من صراع داخلي، صراع طرفاه: أنا وأنا.. مفارقة غريبة حقًا. لا أعلم في أي طرف يوجد ذلك الكبرياء ليس لشيء وإنّما لأني بحق أريده أن يَنهزم، أريده أن يتركني وشأني فلولاه ما كنت لأجد نفسي أكتب هذه الأسطر. لا أعلم إن كنتَ تعيش صراعًا مماثلًا أو أي صراع من نوع آخر، لا أعلم إن كنتُ الوحيد الذي يعتبر نفسه جيدًا جدًا، سيئًا جدًا.. لا أعلم المهم أنّ “جدًا” حاضرة. لا أعلم أيضًا لمَ أضحك ودموعي على شفا مُقلتيّ، أجهل سبب وجودها أيضًا والدافع وراء انتظارها الإذنَ لتسقط. كل ما أعرف أنه بداخلي قدرة عظيمة أستطيع الوصول بها حيث أشاء لكن لا أعلم إنْ كان الكبرياء سيحضر أمامها مجددًا.

 قد تقرأ هذه الرّسالة بإحساس بعيد كل البعد عن الذي أكتبه بها لذا سأشعر بالامتنان إن لم أمسح كل هذه الأسطر، وحتّى إن تركتها حتمًا سأفعل ذلك لنفسي كي أعود لها يومًا ما. فهذه ليست معركة عادية، هذه معركة يقودها نفس الشخص، ضد نفس الشخص، بمساعدة نفس الشخص ومن أجل نفس الشخص… فقط كي يصل هذا الشخص لنفسه.

عندما تنطفئ آخر شعلة بداخلك.. تضطر للخروج من ظلمتك والبحث عن أي توهج في العالم الآخر عسى أن يمنحك بعضًا من نوره فيعود إليك بصيص أمل تتشبث به للمضي قدمًا. تخرج للعالم، فتجده أكثر ظلمةً من داخلك، أكثر انطفاءً من شعلتك وأكثر بؤسًا من ذاتك.. يبقى الملاذ الوحيد والأوحد في السماء عاليًا محلقًا لن يصله جسدك، بينما روحك تستطيع المكوث هناك ما شاء عقلك قبل أن يجبرها على العودة إلى الجحيم.

وفي مثل هذه اللحظات الجميلة، لا أحتاج إلى شخص لينصحني أو يرشدني إلى الطريق الصحيح؛ لأني أعرفه مسبقًا.. أحتاج فقط إلى من يحس بي، يفهم ما أشعر به في داخلي، شخص يشاركني ضياعي ويُشعرني بأني لست تائهًا لوحدي.

أكثر ما أحتاجه هو حضن عميق من شخص لا أعلم أين هو، حتّى أني لا أعرفه، كل ما أؤمن به هو أنه قادر على استخراج شيء ما بداخلي، قادر على أن يضمني فيلتقي قلبه بقلبي ويَمنحان الدفء لبعضهما، فهما الأدرى بما يحملانه من سوداويّة جعلتهما أشد بردًا من الصّقيع. أصبحتْ أكبر مخاوفي في هذه الحياة ألا أجده، أن أظلّ وحدي أُعبِّر والكل يخبرني بأنه يفهمني لكن الحقيقة هي أن أقربهم بعيد عما أشعر به بُعد الأرض عن السّماء. في بعض الليالي القارسة لا نحتاج لغطاءٍ ساخن بقدر ما نحتاج فيها لشخص بجانبنا يمثل ملجأ دافئًا لشيء يحتاج العناية أكثر من الجسد. إنْ وجدتَهُ وعلمتَ يقينًا بأنك تمثل موطنًا كذلك بالنسبة إليه، فتمسك به بأقصى قوتك؛ لأنّ “الشّتاء قادم”.

في كل ليلة، عندما ينام الجميع ويستيقظ عقلي راغبًا في جرعة تأمل.. أضطر لمحادثة نفسي عن نفسي، ما الذي يجعل من أفكاري مستعصية حتّى علي، وكيف أنني استطعت التأقلم مع شخصية لا تَمُتُّ للواقع بصلة… رغم كل هذا هي تروقني أو أنها تجبرني على الإعجاب بها لأنّها ببساطة تمثلني مع الآخرين حتّى وإنْ أردتُ التّبرؤ منها .أنا تائه، لا أعلم أين لكنني أحس بنوع من الضّياع داخلي.. وكأنّني سمكة ولا أدري في أيّ مُحيط أسبح أو كأني شبل وسط الأدغال وحدي، أعرف أني أستطيع النّجاة؛ بَيْد أنّ الإحساس بالضياع يُشعرني بالإحباط ويجعلني حبيس مكاني خائفًا من التّقدم للأمام أو الرجوع إلى الوراء. هكذا هو حالي، أغرق في بحري وأتوه في موطني، فلا أنا ناجٍ من ضياعي ولا أنا ميتٌ فيه.

حمزة السّاطع، سلا