عقب جسد

ـ السّيجارة

كانت رشيقة القوام، ناصعة البياض، يطوّق جسدها إصبعان خشنان يملكهما جسدٌ هزيلٌ شاحب متداعٍ على نفسه، يجلس على حافة الجسر محنيّ الظهر، يخيل للرائي أنّه سيسقط في أيّة لحظة. ومن حين لآخر، وبحركة آليّة يطبق شفتيه على جسمها لثوانٍ معدودة، ليعود بعد ذلك إلى وضعه المتحجر.

ـ الجسد

وكلما وضع السيجارة على شفتيه، لم يكن يدخنها، بل السيجارة من كانت تدخنه، لينزف من فمه وأنفه دخانًا رماديًا سرعان ما يبتلعه الظالم الحالك. كان الليل باردًا، لكنه لم يكترث، فهو يحترق، شيئًا فشيئًا يذبل جسده متحولًا إلى رماد.

 ـ السيجارة

ألقت نظرة للأسفل، لم تر القاع، بل ظلامُ لامتناهٍ، فتوجهت بنظرها إلى السماء، الشيء نفسه، ظلام لامتناهٍ، فاكتفت بتأمل الجسد والدخان المتصاعد منه.

ـ الجسد

يقال إن العينين نافذتان للروح، لكنّ عيناه لم يكونا سوى حائطين إسمنتيين، كلّما وجهت نظرك إليهما يرُدانك خائبًا، لا شيء سوى الفراغ، فراغ لا نهائيّ. تَحسّس الباقي من جسده، وأحال عينيه للأسفل شفقة منه على نفسه، وترك السيجارة تدخنه.

غريب هو شعور أن تكون على الطرف الآخر من السيجارة، أن تكون أنت المحترق، أن يكون الدخان المتصاعد دخانك، دخان جسدك، روحك، أفكارك، والغريب في الأمر أنّ المخاوف، والهواجس، والكوابيس لا تحترق، وإنما تبقى عقب الجسد لتعيش أطول. أَوَ ليست حياتنا سوى سيجارة يدخنها الوقت، والقدر، والخوف؟ أما بالنسبة له، فلطالما عاش حياته هكذا، يجره ظله، يتغذى منه رغيفه، وتشرب قنينة الخمر منه حتى الثمالة. بمعنى آخر، استهلكته حياته. كان يحترق، تتناثر ذرات الرماد مُشكّلة سحابة رمادية سرعان ما تختفي وسط ظلام الليل،

فلن يبعث من رماده سوى الرماد ليدفن عقب جسده، نظر للأسفل، الظلمة أخفت قاع النهر، وربما لم يكن هناك نهر قط، فقط حفرة لا قاع لها، كحياته. يواصل السقوط في فراغ تام. دفن رأسه بين كتفيه في أمل أن يرتطم بالقاع.

ـ السيجارة

 الشفتان على السيجارة، والجسد شارف على الانتهاء، وللحظة تساءلت السيجارة، ترى ما شعور أن تكون على الطرف الآخر من الجسد؟ أن تكون أنت المحترق، أن يكون الدخان المتصاعد دخانك…؟ طردت الفكرة السخيفة وتوجهت بنظرها للأسفل. الجسد قارب على الانطفاء.. انطفأ الجسد. تخلصت منه في الأسفل متابعة بنظرها اختفاءه وسط الظلام، وبقيت السيجارة على الرصيف تبحث عن جسد آخر تدخنه.

ـ الجسد

آملًا  بقاع  يريحه  من  عذاب  السّقوط،  يواصل  عقب  الجسد  السقوط، هنالك  حيث  الفراغ  الأسود، يواصل السّقوط.. لكن لا قاع.

 

 

 

أنس مهداد. وجدة