9 يوليو2022
كانت الساعة تشير إلى التاسعة ليلا حينما كنا ننتظر الإعلان عن الفائز بجائزة “اتحاد كتاب المغرب للمبدعين الشباب”. مرت ساعة على بداية الحفل، تم فيها تكريم مجموعة من الأدباء والشعراء المغاربة الذين تألقوا على المستوى العالمي، وحين أعلنت مقدمة الحفل:
‘سيداتي سادتي، والآن، حان موعد الإعلان عن الفائز بجائزة اتحاد كتاب المغرب للمبدعين الشباب’.
كنت متوترا بعض الشيء، لكنني كنت أدرك بأنني أستحقها، وذلك ما جرى، لكنني لم أصدق رغم ثقتي بأنني كنت أكثر المترشحين جدارة بالفوز، أخيرا تحقق الحلم، كان الفرح يغمرني وأنا أتوج بهذه الجائزة التي أتت بعد سنوات من البحث والتجارب الإبداعية. أغمضت عيني وأنا أتذكر البداية الفعلية لهذا المشوار الطويل الذي تتجدد أمياله كلما تعمقت في السير.
1 أكتوبر 2014،
حين قرعت باب القسم على الساعة الثامنة وخمسة وعشرين دقيقة قرعا خفيفا بيدي المرتعشة، والخوف يسكن قلبي من رفض الأستاذة الجديدة ـ التي ستشرف على تدريسي مادة اللغة الإنجليزية ـ السماح لي بالدخول لإكمال ما تبقى من الحصة، وأنا ابن السادسة عشرة، كانت ثيابي مبللة والطين عالقا بحذائي. حينما فتح باب القسم، أصبت بدهشة شديدة، لأن الطريقة التي استقبلتني بها الأستاذة الجديدة كانت غريبة. كانت نحيلة الجسم قصيرة القامة، ذات ملامح مميزة، كان من المضحك للغاية بأن أراها بلباس صيفي مكون من تنورة قصيرة وأنا ارتعش من شدة البلل، لم أستوعب غرابة المنظر، أخد مني ذلك ثوان عديدة لكي أشعر بأنها تخاطبني قائلة باللغة الانجليزية والابتسامة تعلو شفتيها:
“Are you a student in this class?”
“Yeees, I am sorry”
“Oh, it’s ok. Get in”
“Tha …thank you teacher”
غمرتني فرحة الاستقبال الجيد والسماح لي بالالتحاق بزملائي الجدد رغم تأخري بخمسة وعشرين دقيقة. لم تبد الأستاذة أي اهتمام كل ما كان يهمها هو أن ألتحق وأجد لي مقعدا أجلس عليه، لم يكن من السهل على التلاميذ مقاومة الضحك لأنني كنت أشبه دلوا به ثقوب كثيرة بسبب الماء الذي كان يقطر من بنطالي ومعطفي، كانت ثيابي، وخطواتي التي كانت تزداد ارتباكا كلما تعالت الضحكات المكتومة، لكن الأستاذة وضعت حدا لذلك حينما ذكرت زملائي بالتركيز على إنجاز بعض التمارين التي كان هدفها معرفة مستواهم المعرفي باللغة الإنجليزية. أما أنا، فقد انشغلت تماما بإنجاز ما طلب قبل حضوري، لأن الأستاذة شرحت لي باقتضاب ما فاتني بمجرد استقراري في المكان الذي اخترت الجلوس فيه. وقبل انتهاء العشر دقائق الأخيرة من الحصة، طلبت منا الأستاذة تدوين بعض المعلومات الشخصية، كما كان مبينا على السبورة، ثم تسليمها البطاقات في آخر الحصة. أذكر جيدا كم كنت متحمسا منذ البداية لتعلم هذه اللغة واكتشاف المزيد عنها، حينها غمرني الفرح لأنني استطعت فهم كل ما كتب على السبورة، لكنني لم أعرف كيف أملأ مكان مهنة الأب باللغة الإنجليزية، لأن أبي متوفي. كنت خجولا جدا، لم أستطع طرح السؤال على أستاذتي في البداية، لكنني أدركت أن لا أحد سيساعدني سواها لذا، قررت أخد المبادرة واستغلال فرصة مرورها بين الصفوف، فاستغللت مرورها بجانبي كي أسألها هامسا:
‘What is ميت in English?’
ردت بهدوء:
” Dead”
فسألتها مرة أخرى:
“How to write it?”
فانتقلت أمام السبورة وقامت بكتابة الكلمة، قلت لها:
“Thank you teacher.”
لكنني لم أصدق عيني حينما رأيت زميلي الذي يجلس بجانبي كتب نفس الكلمة رغم أنني أعرف أن والده لازال على قيد الحياة. لاحظت أن كل من حولي كتب نفس الكلمة، كان الأمر مضحكا للغاية، تأكدت حينها بأن معظم زملائي كانوا متعودين على نقل كل ما يكتب على السبورة. و حينما انهيت، سلمت ورقتي للأستاذة لكي تكتشف من هو هذا المبلل الذي يغلبه الخجل، همست لي قائلة بابتسامتها اللطيفة:
“My dad is dead too.”
منذ تلك اللحظة، شعرت بأن رابطا قويا صار يربطني بتلك الأستاذة يتجاوز العلاقة الاعتيادية كالتي تجمع بين الأساتذة والتلاميذ: رابط الفقد..
كان من الصعب علينا فهم ما الذي يجري، ذات يوم ونحن ننتظر مجيء الأستاذة، ظهرت وهي تحمل كيسا بلاستيكيا ذا لون أزرق داكن، اختلفنا نحن التلاميذ هامسين لبعضنا البعض على محتوى الكيس. أغلبنا ظن أنها تحتوي على بعض الكتب. و لكن كل التوقعات لم تكن صائبة، لأننا صدمنا بعد دخولنا، حينما بدأت الأستاذة تخرج خضرا تنوعت بين البطاطس و الجزر والطماطم و بعض الفواكه كذلك.
لم أندهش كثيرا من ذلك المنظر، فقد كنت متعودا على مشاهدة مثله و أنا في الصف الابتدائي. لأنني لا زلت أذكر كيف كانت الأستاذة تحضر معها الخضر وكل ما يلزمها لتحضر طعام غذائها، كنا نسمع صوت صافرة “الكوكوت أو طنجرة الضغط”ّ المعتاد. وتزامنا مع هذا تكلفنا بنسخ بعض القواعد على دفاترنا، لكن أستاذة اللغة الانجليزية كانت مختلفة تماما وفعلت ما لم يكن في الحسبان، حينما قامت تكتب على السبورة :
‘Fruits and vegetables’
حينها أدركت أنه ولأول مرة في حياتي، سيجسد أمامي درس ما..
أذكر كيف كنت أحرك شفتي مدعيا بأنني أردد أغنية ” RIHANA” مع الأستاذة، حتى وأنني لم أكن أحفظ كلماتها، طوال التسع السنوات التي مضت، كانت تلك المرة الأولى التي استفدنا فيها عن طريق نشاط كهذا، فحفظ الأغاني ساعدني كثيرا على تعلم المزيد حول اللغة الانجليزية.
كنت أنتظر الحصة بشوق كبير، كما كنت حريصا على فهم ومحاولة استيعاب كل ما تقدمه هذه الأستاذة لنا من دروس في الإنجليزية وفي الحياة، كانت مبدعة للحد الذي جعلني أقتدي بها في مشواري الدراسي وفي حياتي بصفة عامة، لاسيما حينما منحتنا فرصة للتواصل معها على موقع الفيسبوك إذا احتجنا إلى استفسار حول اللغة أو تمارين إضافية. حيث أن الفضاء الأزرق يسر لي التعبير لها عن انبهاري بطريقتها التي تقدم بها الدرس و المبادئ التي تتبعها في التعامل معنا، كنت أشعر أنها أم ثانية لي – تحمل نفس اسم أبي بضمير المؤنث المتوفى، كان اسمها كريمة وأبي كان اسمه عبد الكريم – كم كانت صدفة رائعة، حملت معها كل شيء رائع لي.
كان كل ذلك رائعا وجديدا بالنسبة لي، لاسيما حينما سمحت لي بمناداتها بأمي خارج الفصل. اخترت مناداتها ” ماموتشكا” كما يفعل الروس لأنني اكتشفت الأدب الروسي من خلال رواية الأبله لدوستويفسكي، في نسخة عربية جميلة، خاصة حينما علمت من “ماموتشكا” أنها درست اللغة الروسية في الجامعة، كانت ترى في تلميذا مجتهدا مختلفا تماما عن البقية ، حيث إنني كنت استثناء بالنسبة لها، لأنني دائما ما كنت أتخذ المبادرة لأقوم بأشياء كانت غريبة عن كل الزملاء، ففي مرة من المرات اقترحت علينا المشاركة في فعاليات إحدى برامج الأسبوع الثقافي، ولم يهتم بالموضوع غيري، فكانت البداية حينما لاحظت أنني أحب البحث والأدب رغم تخصصي في العلوم التجريبية.
ولا أنسى إطلاقا الكتاب الذي أهدتني حينما أخبرتها أن مستواي في اللغة الفرنسية ضعيف. كان بعنوان “الفرسان الثلاثة ” كنت سعيدا جدا باهتمامها بي وحبها مساعدتي، طلبت مني حينها بأنه يجب علي القراءة لتحسين مستوى اللغة الفرنسية كذلك. كم كنت أحب اهتمامها بي لأنه كان كاهتمام أمي وأكثر، لذا لم أكن مترددا في مناداتها بأمي وهي كذلك كانت سعيدة بحصولها على ابن مثلي، رغم أننا عانينا كثيرا من سوء الظن حول علاقتنا من طرف بعض الزملاء. هناك من ادعى بأنها علاقة غرامية تجمع التلميذ بالأستاذة، لكننا لم نكن مهتمين إطلاقا، فقد علمتني أن أركز على أهدافي ولا أبالي بما يفكر به الآخرون أو يرددونه، لأن ما بيننا أرقى وأجمل. الأهم أنها تعرفت على عائلتي، وكانت أمي متفهمة للغاية وسعيدة بشريكة جديدة لها في تربيتي والاعتناء بي وتغذيتي من ثقافتها الغنية حول التاريخ والأدب الانجليزيين رغم اهتمامي الكبير باللغة العربية، كانت تقرأ لي وتشجعني على الكتابة، كانت تؤمن بأنني موهوب بالفطرة، جعلتني أؤمن بنفسي وأثق بقدراتي وبالحس الأدبي الذي أملكه، أعطتني العديد من الكتب التي جعلتني قادرا على تطوير مستواي اللغوي والمعرفي باللغة العربية.
9 يوليو 2022
سلمني أحد الكتاب المشهورين الجائزة، كانت دموعي تنهمر كالمطر من شدة الفرح، كنت سعيدا للغاية، قدمت كذلك كلمة شكر لكل من سهر على تقديم الحفل، لكنني لم أنس تقديم كلمة شكر لأمي وأستاذتي التي كانت سندي وموجهتي منذ البداية.
“هذه الليلة المميزة في حياتي ستظل محفورة بذاكرتي كالوشم القديم، لأنها ستجعلني أجتهد أكثر وأسبر أغوار الإبداع الأدبي وأغوص أكثر في أعماقها. وأود توجيه رسالة هامة إلى الشباب الطموح المبدع انطلاقا من تجربتي الشخصية. اسعوا دائما إلى التواصل مع شخصيات مختلفة ومتعددة التجارب، كي توسعوا آفاقكم وتغنوا شخصياتكم. فما أحوجنا جميعا إلى مثل هذه اللقاءات التي قد تغير مجرى حياتنا إلى الأفضل. لقائي بماموتشكا جعلني أكتشف في نفسي قدرات وقوة لم أكن أدركها، وعلمتني أن الإبداع مغامرة جمالية وإنسانية تمكنني من الخروج من حدود منطقة الأمان التي كنت أعيشها، لكي أحيا حياة أفضل وأغنى، وأسافر عبر الحروف إلى عالم بلا حدود وألتقي أصدقاء من ثقافات مختلفة تعلمت منهم قيم التسامح واحترام الاختلاف الذي يجعلنا أرقى وأجمل”.
عز الدين الدازية
Afanine
مجلة أفانين: هي منصّة إلكترونيّة حرّة، وشاملة، ومتنوّعة، تديرها جمعيّة كتّاب الزيتون والمعهد اللغوي الأمريكي بالدار البيضاء، وتضع على عاتِقها أن تفتحَ نافذةً، للكتّاب والفنّانين في المغرب، نحو آفاق الإبداع. تنشر المجلة أعمالًا أدبية وفنية للكتاب والفنانين الشّباب بالمغرب، بالإضافة إلى مقابلات، وبروفيلات، وفرص، وصور فوتغرافية، وغير ذلك. تروم المجلة تسليط الضّوء على إبداعات الكتاب والفنانين الصّاعدين بالمغرب.