بدون عنوان

إنّ من نشأ وترعرع في وسطٍ مظلمٍ جدّاً، حدّ أن يخرج يده فلا يراها، لا يمكنه، بأيّ حالٍ من الأحول، أن يهاب خفافيش الظّلام. سيكون، بلا أدنى شكٍّ، قد خبر تلاعبهم بالمقدّس، ورقصهم على أوتار القيثارة الحسّاسة. ويعرف جيّداً أنّهم يحاربون النّور، ولا يطيقونه. فما إن يلوّح من بعيدٍ، حتى يسارعون إلى إخماد وهجه. النّور، كما السّؤال، غير مرحّبٍ به في هذا العالم. الظّلام شعار المرحلة، سيراً على نهجِ الخفافيش السالفة. ولا شيء غير العتمة يستحقّ صراخ المناضلين، ومداد الكتّاب والشّعراء.

ذات مساءٍ ربيعيٍ، قرّرت أن أزور أشدّ الخفافيش كرهاً لي. أبادله تحية ودية وأرحل. فما كان مني إلّا أن عزمت على الأمرِ، وأعددت العدّة جيّداً؛ فوضعت على رأسي خردةً صلبةً، اتقاءً لكلِّ مكروهٍ، فكلّ شيءٍ يهون، غير الوقوف وجهاً لوجهٍ أمام خفّاشٍّ، وفي مكانٍ مظلمٍ للغايةِ. بعد وصولي للبناية الآيلة للسّقوط، وجدته معلّقاً في ركنٍ من أركانها. بادرته بتحيّةٍ كونيّةٍ غير آبهةٍ لفارق كيفما كان نوعه وحجمه. تكبّر وأبى أن يبادلني التّحية. لم يزعجني الأمر بقدر ما أزعجه تواجدي. أجابني خفّاش صغير لم أنتبه لوجوده: “كبيرنا يرفض الغرباء. فهل يمكنك الانصراف، فتكون قد تجنّبت أموراً قد تقعُ، وأنت في غنىً عنها؟”.

بالرغم من التّهديد الضّمني الذي لمسته في كلامه، إلّا أنّي أصررت، وبكلّ ما أوتيت من حيلٍ، أن يحدّثني. “فعلى كلّ حالٍ، لا تقلقوا صغاري الخفافيش، فلقائي مع كبيركم لن يستغرق وقتاً طويلاً”. همس الصّغير في أذن آخر بصوت مسموع قليلا: “أنظر، إنّه النّور بعينه. ألا ترى كيف يشعّ وجهه ضياءً؟”. تدخّل آخر، لم أتبيّن ملامحه من شدّة الظّلام، يصلني صوته فقط: “ما الذي يمكن للنّور أن يصنعه هنا؟ إنّه غير مرحّب به في عالمنا”. بعد لحظاتٍ خرج الكبير عن صمته: “لديّ الكثيرُ من الأمور التي يمكن لي معالجتها بدل التّحدّث إليك، وما حديثي معك، في نهاية المطاف، إلّا مضيعة للوقت”. أجبته، بكلّ صدقٍ وحسنِ نيةٍ: “إنّك، يا عزيزي الخفّاش، لا تحبّ الحديث معي، وهذا من حقّك، ولا أحد يصادره. لكن لماذا تصرّ على التّحدّث عنّي، ولا تفوّت فرصةً إلّا وانكبَبْتَ على لحمي تنهشه كما تنهش الكلاب الجيفة أيّها اللّاحم العاشق للظّلام واللّحم؟”.

يجيبني واثقاً: “إنّ لي آراءً خاصةٌ بي، وقناعاتٍ متينةً أسّستها طيلة العقود التي أثّتت حياتي، ولا يمكنني، بأيّ حالٍ من الأحوالِ، أن أناقشها معك. هذا قراري الأخير، ففضلاً منك، لا تصدّع لي رأسي بترهاتك عن النّور وعوالِمِهِ”. قلت له مبتسماً: “يا من يملك قناعاتٍ متينةً، ويعجز عن الدّفاع عنها، اعلم أن هناك خيط رفيع بين أن تتبنّى موقفاً، وبين أن تكون قادراً على الدّفاعِ عنه. قل لي، بكلّ صدقٍ، إلى متى سيبقى السؤال يزعجكم ويقضّ عليكم مضاجعكم؟ ورجاء، اعلم أني لم آت إلى هنا لمساءلتك، ولا لمناقشتك في آرائك وقناعاتك، ما دمت قد آثرت الصمت، والانخراط في الظّلام الدّامس، ويعزّ عليك الخروج من وكرك إلى النّور ولو لمرةٍ واحدةٍ. وإنّما أتيت إلى هنا لألقي عليك التّحية فقط. ولكنّي، في الحقيقة، أحبّ معرفة وجهة نظرك في قضية شائكة، إذا لم يكن لديك مانع بطبيعة الحال، سأطرح عليك سؤالاً واحداً وأنصرف”.

قطب جبينه، كأنّ التّمهيد لم يرقه. وهذا ما أعرفه مسبقاً. ففي غير مرّة أخبرني بأنّ السّؤالَ مؤرقٌ للغايةِ. لكن حفاظاً على ماءِ وجههِِ أمام باقي الخفافيش، نطق بصوت يشبه الصّمت: “تفضل”. قلت له برقّة: “لو سمحت، وتفضّلت عليّ، فتخبرني ما هي فكرتك عن النّور؟”.
يبدو أن سؤالي أشبه بفخٍّ أربكه أكثر ممّا توقّعت. لكنه تمالك نفسه وأجاب: “إنّ الظّلامَ هو الأساس، وهو المكوّن الأساسي للوجود. ففيه نعيش، ونأكل ونشرب. وفيه نتزاوج. وما غيره إلّا وهمٌ يصدّقه الخفافيش الأقلّ إيماناً. في الظّلام، تفعلُ ما تشاء، دون رقابة من أحد. كلّ شيءٍ مباحٌ، شريطة الكتمان.

قلت له: “إنّ إجابتك منطقيّة جدّاً، وفيها الكثير من الصّواب. لكنّك لم تفعل سوى إثبات وتبرير انتمائك للظّلام. وما أرغمك على ذلك إلّا عماك الأيديولوجي والتّسليم المطلق بصدق مذهبك. وذلك يفعله جميع الخفافيش على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم. وما لم تجب عليه، هو ما فكرتك عن النّور؟”. بدا عليه التوتر ثانية، فما كان منه إلّا أن صرخ في وجهي: “ألم أقل لك في غير مرّةٍ، إنّ كثيراً من الأسئلة ما هي إلّا محاولة لإفساد ما سهر على إصلاحه الأولون، وما صاحب الأسئلة الكثيرة إلّا شيطان في صورة فيلسوف أحمق، أو شاعر تائه، أو زنديق يقف أمامي”. فلمّا أصررت على سماع الإجابة، وألححت على ذلك كطفل يحرج والديه بسؤال بدون قميص. أطلق علي وابلا من كلامٍ لم أتبين ماهيته في البداية. لكن من خلال أوداجه المنتفخة جدّاً، وملامحه التي ازدادت توتّراً أكثر من ذي قبل، تبين لي، ممّا لا يدع لي مجالا للشّكّ ولا لحسن نيةٍ، أنّه سبابٌ وشتمٌ. وبما أني خبرت الخفافيش، وعشت معهم كثيرا، لم أجد بدّاً من أن أطلق ساقيّ للريح، وأنجو بجلدي.

ومنذ ذلك المساء الربيعي البئيس، اعتزلت أوكارهم، واخترت، سلامة لروحي وعظامي، الجلوس وحدي في أعلى الجبل. أمارس وردي اليومي من التأمّل؛ أناشد من خلاله السماء بقلب قدّيس وإن حسبوه زنديقاً، وأبث إليها بما يخالجني. ولحظتها، حيث لا يكون بيني وبين السماء غيمٌ ولا خفّاشٌ، أطرح أسئلتي بكلّ حرّيةٍ، رغم أنّي لا أنتظر جواباً، فالسّؤال في عالَمنا، عكس عالَم الخفافيش، أهمّ من الجواب.

عبد اللطيف المرابط