هويّتي: قادمة من الأبد وإلى الأبد
سنكون مخطئين إذا اعتبرنا أنّ مجتمع الإنسان، محيطه، و إيديولوجيات بيئته لا تؤثر عليه، و على أفكاره و تصرفاته، فقد تحد من حرياته أو تجعلها مطلقة في بعض نواحي الحياة، وقد تملي عليه طريقة معينة في الحوار أو اللّباس أو التّحية، و قد يصل ذلك التأثير إلى تعويض ما له علاقة بمشاعر الإنسان تجاه مجتمعه وأناس هذا المجتمع، بما هو منبثق من العادات و التقاليد. تلعب عدة محددات دورًا كبيرًا في حياة كل إنسان على الأرض، لكن إلى أين يصل تأثيرها؟
أعتبر، شخصيًا، أنّ التأثير كبير. لكنّ هذا التأثير لا بدّ منه لاستكشاف الذات و ما حولها؛ فتعايشي مع محددات كثيرة جعلني أعيش من خلال شخصيّات مختلفة، فمثلًا المواضيع التي كنت أحدث أصدقائي الأجانب عنها، لم أكن لأجرؤ و أتحدث عنها أمام جدي، أو عائلتي المجتمعة حول المائدة يوم العيد، و أيضًا لا أعرف كيف يمكنني أن أصرخ كل يوم بقضيّة أنّ المرأة يجب أن تساوي الرجل في كل شيء، و لكنني كنت أجد نفسي متلذذة إذا تم تصغير قيمة الرجل و تمت مناداته بامرأة. لازلت أحارب ما طبعه المجتمع فيَّ، و كيف جعلني أُعِدّ لكلّ شخصٍ طريقة في الكلام و أختار بعناية المواضيع التي يمكن أنْ أستعرضها، لكن لا يمكنني أن أكذب، و أقول أنّ مجموعة من مبادئي و قيمي استخرجت من هذه التّجربة العسيرة، فلقد عرفتُ ما يسمح به كلّ مقام و ما لا يسمح به، و قارنت الأفكار، بحثت، و استفسرت لأقتنع بكل فكرة راودتني، و لا أظنّ أنّه كان بالإمكان أن أصنع شخصية متفردة لي حاليًا إن لم أكن قد مررت من هذا التّحدي.
لم أختر أن أولد أنثى مغربية، سمراء من عائلتين بقناعات مختلفة، لم أشأ أن أخلق في مدينة كبيرة، في حيّ شعبي، أو أنشأ في مجتمع دينيّ، و كذلك لازال يعترف بكل ما هو قَبَلِي، لكن مع ذلك، أنا ممتنة لكل هذا، فبدون هذه الأشياء، سأكون بلا هوية، جعلتني ما أنا عليه اليوم. و الهوية ليست سوى تلك الكلمة التي تربطني بماضيّ و حاضري و مستقبلي، بكل ما حدث ونتجت عنه، و بكل ما أفعله وسيؤثر ذلك على ما هو آتٍ. و من أهم ما تتميز به هويتي هو الانفتاح و تقبل الاختلاف، و لعلّ كل شخص يشاركني بيئتي، مجتمعي، بلدي، أو حتى الحي الذي كبرت فيه، هو شخص منفتح أمام جميع الأفكار، و متقبل لكل الاختلافات داخل نطاق الاحترام. نفتح عقولنا للمعرفة، وقلوبنا للإحساس. لا أقول إنّنا نتقبل كلّ اختلاف برحابة صدر و نعانقه، بل نحترم اختلاف الغريب، و نحافظ على أصالتنا و تقاليدنا. من أهم مميزات هويتي، أنني أتذوق الاختلاف بطعم تقليديّ مغربيّ عربيّ أمازيغيّ، و لعل هذا من أهم الدلائل على ما قلته سابقا؛ فشمال افريقيا منطقة أمازيغيّة بامتياز، و قد عرفت هذا الشّعب موطنًا لها منذ سنوات عديدة، لكنّ تطعمه بالفينيقيين، ثم الرومان، ثم العرب لم يفقده أصله، بل جعله زاخرًا بعدّة مقومات جديدة، و علّم ساكنيه أهمية التقبل و التعايش و التضامن، و لازلنا إلى الآن ننعم بالتآزر و الحب بيننا مهما زادت قوة الصّور النّمطية و تسمية الشخص بقبيلة كفت عن الوجود بنظامها القبلي منذ فترة طويلة. و لهذا فإنني أشعر بتواصلي مع حضارات استنشقت الهواء في شمال إفريقيا، و التي ربما تميزت بالخصال التي لا نتميز بها نحن، فمثلًا، لازلنا اليوم نناقش مسؤولية المرأة و قدرتها على العمل و مساواتها بالرجل، بينما نقش “يوبا الثاني” على عملته وجهه من جهة، و وجه زوجته من جهة، منبهًا إلى أنّ البلاد يقوم عليها حاكمان مسؤولان. و في شمال إفريقيا كذلك آمن الناس بــ”ديهيا” قائدة لتحميهم من بطش العدو، و لم تخيب آمالهم؛ فقد حاربت بجسارة من أجل إبقاء هويتها، و عاشت الهوية إلى اليوم. و بالتالي فإنّ هويتنا تتسم أيضًا بقدرتها على التكيف و العيش لوقت طويل، فلازالت هوية “ديهيا” تعيش معنا اليوم، فنحن لازلنا نعترف باللغة الأمازيغية، والسنة الأمازيغية، والفنّ الأمازيغي، والتاريخ الأمازيغي، وتقاليده، و أشخاصه، و مع ذلك نعترف بالعديد من الأشياء الجديدة، فهويتنا أصيلة و قادرة على العيش بقوة لمدة طويلة، طويلة لدرجة أنني أتوهم أنها ستعيش للأبد. الهوية شيء لا يتميز به شخص واحد وحيد، بل هي شيء مشترك ينعم به جمع من الناس؟ و الأكثر من ذلك هو شيء يجعلني أحس بمفهوم الانتماء، و بوجود أناس آخرين يشاركونني في عدّة قيم و خلفيات، يجعلني متأكدة أنني لست وحيدة، و هذا ما يحصل عندما أسافر إلى الخارج وأجد مثلًا شخصا يتكلم لغتي، أو يشاركني في انتمائي إلى وطني الأم، فيساعدني على شراء تذكرة القطار، أو مساعدتنا في فهم ما يكتب على إشارات موقف السيارات، لكن أن تكون جزءً من هذه الهوية، و ترى على أنك جزءٌ من مجموعة ما له بالنسبة إلي إيجابيات و سلبيات، فأما الإيجابيات، فتختزل في أنني أرى على أنني مركب إنساني ثقافي، يرى من خلالي مجتمعي و تاريخي و تقاليدي، و بالتالي تصنع لي هويتي صورة معينة أمام الأجانب، و حتى هذه الصورة تدفعني إلى احترامها و محاولة تحسينها، و هذا هو الشيء الذي يدفعنا لعمل شيء تفخر به البلاد والأمة والدين والعائلة، فالهوية أمام الآخر هي دافع لتحقيق الذات و الاجتهاد، بينما السلبيات تقطن في تبني الناس حول العالم مؤخرًا للصور النمطية التي قد يروج لها الإعلام و الإنترنيت على حد سواء، أو كذلك رسائل الكراهية التي أصبحت منتشرة، و بالتالي تستهدف هوية الشخص بكاملها، و قد يستطيع الإنسان حتى أن يتخلص منها إن استطاع، كما قامت بعض النساء إبان عمليات ارهابية تقنعت باسم الإسلام، بنزع حجابهن خوفًا على سلامتهن. لكن حتى مع وجود هذا الخطر الذي يهدد التمسك بالهوية، يبقى وجودها مهما في تحديد حقيقة الإنسان و تمسكه بالماضي و القريب ليفهم نفسه و حياته. لذا باختصار، أُرى في الهوية الشجاعة و القوة للتمسك بالحياة و فهمها، يعني لي نبذ الاختلاف و التّعصب و العنف، لكي يستطيع كل واحد منا أن يتمسك أشد تمسك بهويته. هويتي تعني تقاليدي، ومجتمعي، وبيئتي، وتاريخي و تاريخ من حولي، و كذلك تاريخ الأرض التي عشت فوقها، هويتي تعني أيضًا قيمي، ديني، أفكاري، مبادئي المكتسبة من تعايشي مع المجتمع و ساكنته، هويتي هي تقبلي لكلّ ما رزقت به دون أن أطلبه، اسمي، وجنسي، ولوني، وعائلتي. هويتي هي أيضًا الحب و الشغف الذي أؤتيه لكل ما حولي. أليس الحب و الشغف من أهم الأشياء التي قد تلهم الإنسان ليبدع مستخرجًا أجمل ما في خياله الجامح؟
غيتا رُشدي. الدّار البيضاء
Afanine
مجلة أفانين: هي منصّة إلكترونيّة حرّة، وشاملة، ومتنوّعة، تديرها جمعيّة كتّاب الزيتون والمعهد اللغوي الأمريكي بالدار البيضاء، وتضع على عاتِقها أن تفتحَ نافذةً، للكتّاب والفنّانين في المغرب، نحو آفاق الإبداع. تنشر المجلة أعمالًا أدبية وفنية للكتاب والفنانين الشّباب بالمغرب، بالإضافة إلى مقابلات، وبروفيلات، وفرص، وصور فوتغرافية، وغير ذلك. تروم المجلة تسليط الضّوء على إبداعات الكتاب والفنانين الصّاعدين بالمغرب.